الجمال والإنسانية يتجسدان في لوحة جدارية تمتد على 50 مبنى
رسم إل سيد، بأسلوبه المميز الشهير، العديد من لوحات الكاليجرافيتى الجدارية في أماكن عدة، من تونس إلى باريس، بيْد أنه أبدع مؤخرًا مشروعه الأكثر طموحًا حتى الآن: لوحة جدارية تمتد على 50 مبنى لا تُرى بالكامل إلا من جبلٍ قريب؛ إذ تابع إل سيد تنفيذ هذا المشروع الممول ذاتيًا كطريقة لتسجيل موقفٍ سياسي، ولكن التحول الحقيقي الذي أحدثه هذا المشروع كان - على حد وصفه - شخصيًا.
يقول القديس أثناسيوس، أسقف قبطي من القرن الثالث:
"إن أراد أحد أن يبصر نور الشمس، فإن عليه أن يمسح عينيه أولاً".
في كل مرةٍ أرسم فيها لوحةً جدارية، أختار اقتباسًا يتلاءم مع موقع اللوحة والغرض الذي أريده منها. لقد اخترت هذا الاقتباس لمنشية ناصر - مكان في القاهرة يعيش فيه جامعو القمامة - لأقول لو أردت الذهاب إلى مكان والتعرف على ناسه، فلا يمكنك الحكم عليهم إلا بعد معاشرتهم. يجب عليك التخلص من جميع الأفكار الخاطئة التي كونتها عنهم.
غالبًا ما يطلق الغرباء على أهل منشية ناصر، المعروفة أيضًا بمدينة القمامة، اسم الزبالين، ويعني "جامعو القمامة"؛ فهم يجمعون قمامة القاهرة منذ عقود، ولكنهم لا يسمون أنفسهم زبالين، إذ يرونه أمرًا مخجلاً، وإنما يطلقون على أنفسهم اسم "الزرايب"، ويعني "مربو الخنازير" - لأنهم يحتفظون بالخنازير التي تأكل القمامة العضوية وتزودهم باللحوم. ويتألف مجتمع المنشية من 98% من المسيحيين الأقباط و2% من المسلمين. وقد أنشأوا هنالك أقوى نظام لإعادة التدوير في العالم: فهم يعيدون تدوير 80% من القمامة التي يجمعونها، وهو أمر يدعو للذهول.
أعضاء فريق إل سيد يشربون المياه الباردة بصحبة أشخاص من الزرايب. الصورة من إل سيد.
لقد سمعت عن هذا المجتمع ولم يكن لدي أي فكرة عنهم، غير أنّهم مرتبطون بالقمامة. لذا، وكأي شخص آخر، توجهت إلى هناك حاملاً العديد من المفاهيم الخاطئة؛ فقد كنت أفترض أنّ هؤلاء الأشخاص قابعون في الفقر والقذارة، ولكني تلقيت صفعة على وجهي - إذ وجدت أنّ كل تصوراتي كانت خاطئة تمامًا. فمجتمع الزرايب لم يكن يعيش في القمامة، بل منها، وهو أمر مختلف تمامًا. إنهم فخورون بما يفعلوه، إذ يدركون أنّ القاهرة من دونهم ستغرق في القمامة، حتى إنهم يسخرون من أهل القاهرة ويسمونهم بالزبالين، على أساس أنهم هم من يخلّف هذه القمامة.
أطفال الزرايب. الصورة من إل سيد.
أدركت أنني أرغب في لفت الانتباه إلى أهمية الزرايب، ولكنني كنت غريبًا. في الصيف الماضي، ذهبت إلى منشية ناصر وقررت رسم لوحة جدارية على 50 جدارًا. وكانت مقاربتي أن أطرق الأبواب وأقنع مالكي كل منزل بأن يمنحوني الإذن للقيام بعملي. وفي النهاية أتى إلي شخص وقال لي: "أنت لست بحاجة إلى إقناع كل شخص في المنطقة، وإنما عليك إقناع شخص واحد فقط، وهو القس سمعان". تمكنت من مقابلته، وقد رحب بالفكرة وأبدى إعجابه بالاقتباس. وبمجرد حصولي على موافقة الأب سمعان، أبدى الجميع موافقته.
إل سيد أثناء عمله على المبنى رقم 6، وهو واحد من الخمسين مبنى التي أبدع عليها لوحته الجدارية العملاقة المتعددة المقاطع. الصورة من إل سيد.
لم أرسم لوحة جدارية متعددة المقاطع من قبل، ولكني اخترت هذا الأسلوب هنا لأني أردت أن أثير موضوع كيف يميل الناس إلى الحكم على الآخرين من دون معرفتهم حق المعرفة، وبأفكار خاطئة مستندة إلى نماذجهم الخاصة أو شيء رأوه في وسائل الإعلام. أردت إبداع رمز يجبر الناس على النظر من الزاوية الصحيحة من أجل رؤية الأمور بوضوح.
لقد أفضى ذلك إلى العمل بطريقة مختلفة عما اعتدت عليه؛ عادةً أنا لا أرسم رسومات، ولكني أعرف الاقتباس الذي سأستخدمه، وأعرف الشكل الذي أريده، ثم أبدأ العمل بأسلوب حر وحسب. ولأغراض تحقيق الإدراك، كنت بحاجة إلى تحقيق التطابق بين كافة أجزاء اللوحة. وهذا يعنى أنّ يكون حجم الجزء الذي في الجدار الخلفي متناسبًا مع الجزء الذي في الجدار الأمامي، ولكن بمقياس مختلف - أي أن تكون الصورة المرسومة على المبنى الخلفي، مثلاً، أكبر عشر مرات من الصورة المرسومة على المبنى الأمامي. فالتقطت الصور بعدسة مكبرة، وأحصيت عدد الطوب كنقطة مرجعية. ومما ساعدني أنّ الطوب في الجدار ليس متطابقًا، فمنها من هو مكسور، ومنها من هو داكن، ومنها من هو فاتح، ومن ثم استخدمت هذا الطوب في كل مبنى كشبكة.
إل سيد يستخدم رافعة للالتفاف حول لوحاته الجدارية بينما يرسمها. الصورة من إل سيد.
عندما ترسم على 50 مبنى، تكون بحاجة إلى خدمات لوجستية هائلة لضمان إنهاء المهمة في الوقت المحدد. في البداية كانت هذه المباني جميعها معرفة بأرقام: المبنى رقم 1 والمبنى رقم 2 والمبنى رقم 6 و18 و29 وهكذا، ولكن في نهاية المطاف، أصبحت معرفة بالعائلات؛ هذا منزل عم إبراهيم، وهذا منزل عم بخيت. ولم يسبق لي أن حظيت بهذا الكم من الترحيب في أي مكان في العالم. ولم يقتصر تعاون الناس معي على تقديم المساعدة فحسب، ولكنهم فتحوا قلوبهم وبيوتهم، لعبنا كرة القدم معهم، بل ودعونا إلى حفلات الزفاف. وقد تحولت كل هذه العائلات في المنازل إلى أسماء وأناس وذكريات نتشاركها معًا الآن. أصبح أهل المنطقة كالعائلة، وكذا أصبحنا بالنسبة لهم.
الصورة من إل سيد.
على أنّ فن الشارع لا يدوم بطبيعة الحال، فهذه اللوحة الفنية ستختفي في وقتٍ ما، إذ سيأتي شخص ما في يوم ما ليبني على الجدران، أو أنها ستتعرض للتشويه أو السقوط، ولكننا سنحتفظ دائمًا بذكريات اللحظات التي قضيناها والروابط العاطفية التي أقمناها هناك. فعندما هممنا بالمغادرة، بكى الناس، واغرورقت أعيننا بالدموع أيضًا. وهذا كل ما تتعلق به تجربة الإدراك، فقد تجاوزت حدود أي إنجاز أو تحدٍ فني.
تحتوي اللوحة الجدارية المتعددة المقاطع المكتملة على اقتباس من أحد الأساقفة الأقباط في القرن الثالث القديس أثناسيوس في الإسكندرية. يقول النص: "إن أراد أحد أن يبصر نور الشمس، فإن عليه أن يمسح عينيه أولاً". الصورة من إل سيد.
وقبل بضعة أشهر، عندما وقعت هجمات باريس الإرهابية، طلب مني TED أن أكتب شيئًا ردًا على ذلك، فقلت انا غير مستعد لذلك، إذ لم يكن بوسعي كتابة أي شيء لأنني لم يكن لدي أي رد. ولكن بعد انتهائي من هذا المشروع، عرفت أن الأمر كله يتعلق بالإدراك - كيف ندرك الأشخاص الذين لا نحبهم، أو الذين نحكم عليهم بصورة خاطئة. وأعتقد أنّه قد حان الوقت لكي نستعيد إنسانيتنا. لقد جعلني هذا المشروع أرى أنّ الإنسانية لا زالت بخير؛ حيث رأيت أناسًا يحتاجون إلى ما هو أقل بكثير مما يحتاجه أي شخص آخر في العالم، ولكنهم كانوا كرماء للغاية. والأهم من ذلك تلك التجربة الإنسانية التي مررت بها ولن تفارقني أبدًا.