كيف نتجاوز تجاربنا الصعبة بالكتابة عنها؟

29 يونيو 2020

سكينة هوفلر

لدي لك سؤال: "هل سبق وأن رأيت شيئًا وتمنيت لو أنك تحدثت بشأنه، ولكن لم تفعل؟"

ولدي سؤال آخر: "هل جرى لك شيء لم تبح به أبدًا، مع أنه كان عليك أن تتحدث بشأنه؟"

هناك فرق بين أن تكون متفرجًا سلبيًا وأن تكون شاهدًا عن قصد وإرادة، وتلك هي الفكرة التي تثير اهتمامي. 

كونك شاهدًا يعني كتابة ما رأيته أو سمعته أو اختبرته؛ إذ إن أهم مكونات الشهادة هو تدوينها وتسجيلها، فالتدوين والتسجيل هو ما يحفظ الشيء في الذاكرة ويكون بمثابة إقرار بوجوده.

وهناك أمثلة عديدة عن شخصيات تاريخية قررت أن تكون شاهدة على مجريات الأمور، من أبرزها "آن فرانك" التي أدلت بشهادتها في مذكراتها، حيث كتبت ما مرت به هي وعائلتها من أحداث عنيفة وقاسية، لتصبح شهادتها الشخصية جزء في غاية الأهمية خلال فترة من أسوأ الفترات في تاريخ العالم.

أنت أيضًا بإمكانك استعمال الكتابة الإبداعية لأجل أن تكون شاهدًا على مجريات الأمور. وسأقدم لك في السطور التالية التدريب الذي أقوم به مع طلابي في الجامعة، من المهندسين والفنيين بل والسباكين الذين لا يشتمل تخصصهم على الكتابة الإبداعية والأدبية. وهذا التدريب نستعمله لكي نطلق سراح الأشياء التي كتمناها بالصمت، وهو طريقة جيّدة لتخفيف الأعباء الثقيلة التي نحملها في نفوسنا، ويتكون من ثلاث خطوات بسيطة:

الخطوة الأولى: العصف الذهني والكتابة 

أضع طلابي على أول الطريق بتلقين مفتتح الجملة، هكذا: " ذات مرة…"، ثم أطلب منهم إكمال الجملة بالمرات التي مروا فيها بتجربة أو سمعوا فيها شيئًا أو شاهدوه بما يستدعي تدخلهم بالقول أو الفعل ولكنهم لم يفعلوا. وأطلب منهم أن يكتبوا قائمة بهذه المرات بأسرع ما يمكن.

إليكم بعض الأمثلة لما قد أكتبه:

  • ذات مرة، بعد مرور بضعة أشهر على أحداث 11 سبتمبر، كنت أمشي مع أختي في الشارع وبصق علينا صبيان ووصفانا بالإرهابيين
  • ذات مرة، كانت زميلاتي في المدرسة الإعدادية يتزوجن في سن مبكرة من رجال كبار أعمارهم ضعف أعمار زميلاتي
  • ذات مرة، أشهر صديق مسدسه في وجهي
  • ذات مرة، كنت في غداء عمل وظل أحد المديرين يسألني عن سلالتي وأصولي لما يزيد على 45 دقيقة

وهناك مرات عديدة رأيت فيها شيئًا ولم أتدخل، مثلًا:

  • ذات مرة، كنت جالسة في القطار وشاهدت أبًا يضرب طفله الصغير في القطار ولم أتدخل
  • في مرات عديدة رأيتُ أحد المشردين بلا مأوى وطلب مني أن أعطيه بعض المال، لكنني ابتعدتُ عنه وكأنني لا أكترث بإنسانيته.

وتستمر القائمة وتطول. فكروا في الأوقات التي ربما تكونوا قد تعرضتم فيها للتحرش الجنسي، وفكروا في أشياء حدثت ثم بقيت طي الكتمان في نفوسكم، وأشياء حدثت لكم مع أسركم. نادرًا ما نتحدث عن مواقف تمس أفراد عائلاتنا التي نحبها؛ فلا نحكي مثلًا عن فرد في الأسرة ربما يكون مدمنًا أو يعاني مرضًا ذهنيًا. وحين نتحدث عنه نقول أشياء من قبيل: "هذا ليس جديدًا، فهو دائمًا على هذه الحال"، ثم نأمل أن تختفي المشكلة من الوجود أو تنصلح بمجرد أن نتجنب الحديث عنها والاعتراف بوجودها.

الهدف هو كتابة عشرة مواقف على الأقل، وحينئذ يتم الجزء الأول من التدريب، ألا وهو الإدلاء بالشهادة على مجريات الأمور. وبهذا تكونوا قد حررتم ما كان مكتومًا بصمتكم.

الخطوة الثانية: التنقيح والتركيز

أقترح عليكم العودة مرة أخرى لقائمة المواقف العشرة التي كتبتموها واختيار أكثر ثلاثة من بينها تؤرقكم أو تجيش لها مشاعركم. وهذا لا يعني بالضرورة اختيار أشد المواقف إيلامًا، وإنما اختيار المواقف التي تشعرون أنها خلفت شعورًا قويًا داخلكم ينبغي البوح به والكتابة عنه. أقترح الجلوس بورقة وقلم عند مكتب أو طاولة، فهذه هي طريقتي المفضلة في التسجيل، ولكن يمكنكم استعمال الحاسوب اللوحي أو الآيباد أو أي شيء يسهل عليكم الكتابة به. 

كذلك أقترح استغراق مدة 30 دقيقة في الكتابة دون مقاطعات، أي إغلاق الهواتف وعدم مطالعة البريد الإلكتروني طوال هذه المدة. وإن كان لديكم أطفال صغار في البيت، امنحوا أنفسكم مهلة 20 دقيقة للكتابة، أو حتى خمس دقائق على الأقل. المهم هو أن تمنحوا أنفسكم وقتًا للكتابة.

المطلوب في هذا الجزء هو التدريب على الكتابة والتركيز على ثلاث مراحل، هي: التفاصيل، وتسلسل الأحداث بالترتيب، ووصف شعوركم في كل موقف. وهذه المرحلة الأخيرة هي الأهم على الإطلاق. 

فمثلًا من القائمة التي كتبتُها في الخطوة السابقة، اخترتُ ثلاثة مواقف، وكتبت عن كل موقف أين كنتُ، وماذا حدث لي بالتفصيل، وكيف كان شعوري وقتها. هنا ينتهي الجزء الثاني من التدريب المتعلق بسرد التفاصيل وتسجيل الوقائع والمشاعر، ويبدأ الاستعداد لاستعمال الكتابة الإبداعية في عملية الإدلاء بالشهادة.

دعوني أوضح لكم طريقتي لتنفيذ هذه الخطوة. المرة الأولى التي جاش لها صدري كانت بعد أحداث 11 سبتمبر بشهرين، عندما تجرأ صبيّان على لمسي. كنتُ على ما أذكر أمشي في مجمع تجاري بمنطقة ريفية بولاية كارولاينا الشمالية؛ فقط أمشي ولا شأن لي بأحد.

ثم بدأتُ أشعر أن ثمة أشخاصًا يمشون خلفي ويقتربون مني أكثر فأكثر، فقلت لنفسي: "هذا مريب حقًا؛ ولابد أن أسرع الخطى قليلًا". وعندما أسرعتُ، أسرع الصبيّان خلفي، وسمعت حديثهما وأحدهما يدعو الآخر أن يبدأ بمضايقتي — "ماذا تنتظر؟"، "لا أنت أولًا!"، "لا، بل أنت" — واستمر الحال هكذا حتى دفعني أحدهما بقوة كدتُ معها أن أقع على الأرض.

حين اعتدلتُ، توقعتُ اعتذارًا أو شيئًا قريبًا منه، لكن الغريب في الأمر هو أنهما لم يعتذرا أو يهربا، بل وقفا على مقربة مني ينظران إلي. أذكر أن أحدهما كان أشقرًا يرتدي قميصًا أحمر قانيًا، وكان يقول للآخر: "أعطني المال الآن يا رجل، فلقد فعلتُ ما أمرتي به". ثم رأيت الثاني ذو الشعر البني يسلّمه ورقة نقدية بقيمة خمسة دولارات. أذكر أن الورقة النقدية كانت مكرمشة، وأنني في تلك اللحظة سألتُ نفسي: "هل ما أزال هنا؟ أهذا قد جرى حقًا؟ ما الذي حدث؟"

كان الأمر غريبًا جدًا: أن أكون موضوع تحدٍ بين شخصين، وفي الوقت نفسه يتعاملان وكأنّني لست موجودة. حينها تذكرتُ أيام كنتُ طفلة وتحداني أحدهم أن أتجاسر وألمس شيئًا قذرًا أو مقززًا، وحينها شعرتُ أنني ذلك الشيء القذر والمقزز.

المرة الثانية التي خلّفت في نفسي مشاعر قوية كانتْ عندما قام صديق (أو بالأحرى صديق سابق) بإشهار مسدسه في وجهي. كنّا ضمن مجموعة من الأصدقاء نقف في الهواء الطلق حين جاء يركض وفي يده الكيس الورقي البني المعروف؛ وكنتُ أعرف ماذا يحوي الكيس بداخله. ولأنني ثرثارة متبجّحة، نهرتُه قائلةً له: "ماذا عساك تفعل بهذا المسدس؟ لن تجرؤ على أن تفعل به شيئًا، لأنك جبان ولا تعرف حتى كيف تستعمله".

أخذتُ في ترديد كلام من هذا القبيل أكثر فأكثر، فازداد غضبه أكثر فأكثر، إلى أن أخرج مسدسه وأشهره في وجهي. حينها ساد الصمت بيننا جميعًا. أذكر أمارات الغضب الشديد التي بدت على وجهه، وأذكر فوهة المسدس وشعوري وقتها، وأكاد أجزم أن جميع من كانوا معنا شعروا مثلي أن لحظة موتي قد حانت. 

المرة الثالثة التي شعرتُ حيالها بمشاعر جياشة كانت خلال غداء عمل مع زملائي ومدير مديري. أذكر أنني وصلت متأخرة، وهذا أمر معتاد بالنسبة لي، فأنا دائمًا متأخرة. لم تكن حول المائدة مقاعد شاغرة سوى المقعد المجاور له، ولم أكن أعرفه جيّدًا؛ فقط كنت أراه في المكتب من حين لآخر. لم أعرف لماذا بقي المقعد الذي يجاوره شاغرًا، وتكشف لي السبب فيما بعد. جلستُ إلى المائدة، وقبل حتى أن يعرف اسمي، سألني مشيرًا إلى رأسي: "علامَ هذا كله؟" فظننتُ أن ثمة شيئًا على وجهي. ماذا يحدث؟ 

كرر سؤاله وهو يشير بيده إلى رأسي: "علامَ هذا كله؟" ففهمتُ أنه يقصد حجابي. حدثتُ نفسي قائلةً: "لا، ليس اليوم"، ولكنه مدير مديري — أو لعله مدير مدير مديري؛ لذا تحملتُ لمدة 45 دقيقة كل أسئلته عن موطني، وموطن أهلي، وموطن أجدادي، ثم سألني أين درستُ، وأين تلقيتُ التدريب المهني، ومن أجرى معي المقابلة قبل تعييني في وظيفتي. حرصتُ لمدة 45 دقيقة على أن أكون مهذبة إلى أقصى حد بينما أجيب عن أسئلته كلها.

أذكر أيضًا أنني كنتُ أرسل نظرات استغاثة لزملائي الجالسين حول المائدة، وكأنني أقول لهم: "ألن يتدخل أحد منكم ليقول شيئا؟" لكن لا أحد من الجالسين على جانبي المائدة المستطيلة تفوه بكلمة واحدة؛ وكذلك المديرون الآخرون الذين تسمح لهم مناصبهم العليا بالتدخل، لم ينبسوا ببنت شفة. شعرتُ في تلك اللحظة أنني وحيدة، وشعرت بالاستفزاز وأردت أن أستقيل.

تلك هي المرات الثلاثة التي في قائمتي. وسوف تجدون أمورًا ثلاثة تخص كل منكم. اذكروها ثم اكتبوا تفاصيلها وتسلسل أحداثها وصفوا مشاعركم حيالها، وهكذا تكونون بالفعل مستعدين لاستعمال الكتابة الإبداعية في الإدلاء بالشهادة.

الخطوة الثالثة: الاختيار والكتابة الابداعية

ليس المطلوب أن تكتب مذكراتك، ولا يشترط أن تكون أديبًا مبدعًا. ومعروف أن بعض الناس قد يجد صعوبة في حكاية المواقف والقصص؛ ولكننا بشر، ورواية القصص جزء من طبيعتنا. وإذا سألني أحدهم: كيف حالك اليوم؟ فلسوف يتضمن ردي بداية ومنتصف ونهاية، أي سيتضمن أجزاء حكاية القصص.

تتكون ذاكرتنا وتحيا من خلال رواية القصص وسرد الحكايات. وما عليك سوى اختيار القالب المناسب لك. قد يكون قالب الحكاية رسالة موجهة للنفس، أو قصة موجهة لطفل في الخامسة، أو أغنية، أو محاكاة ساخرة للموقف الذي تحكيه. يمكنك كتابة الحكاية في مسرحية كاملة، كما يمكنك كتابتها في أهزوجة تغنى للأطفال، بل ويمكن كتابتها في قالب مقال ويكيبيديا.

وإن كانت الحكاية تتعلق بموقف شاهدته ولم تتدخل فيه، بإمكانك كتابتها من وجهة نظر الشخص الذي رأيته. فمثلًا إذا عدت إلى ذاكرة الطفل الذي رأيت أباه يضربه في القطار، سوف أتخيل نفسي مكانه ثم أكتب القصة من وجهة نظره هو وشعوره إزاء الناس الذين شاهدوا ما يجري له ولم يتدخلوا. وقد أضع نفسي مكان إنسان بلا مأوى وأفكر في المسار الذي انتهى به إلى هذه النقطة. ربما يقودني هذا التدريب على تغيير أفعالي، وربما يجعلني أقدر على المبادرة في أمور معينة. 

عندما نحكي قصصًا شخصية، فإننا نكسبها الحياة من جديد، بدون أن نكون مضطرين لفعل أي شيء أو حتى إشهاد الآخرين على الخطوات التي قمنا بها. فحتى وإن كنّا نشهد أنفسنا فقط على ما حدث، فإننا نقول إن هذا الشيء الغريب أو القبيح أو المحرج حدث بالفعل وأنه ليس وهمًا. هذا بحد ذاته قد يمكننا من استرداد بعض من قدرتنا على الفعل التي سلبت منّا حين وقع الحدث أول مرة.

هكذا أستعمل الكتابة الإبداعية لأدلي بشهادتي 

خلال غداء عمل مع زملائي 

 

وددتُ أن أسأل مدير مديري ما إذا كان غبيًا!

هل بلغ به الحمق مداه وقد نظر إلى حجابي مليًا،  

 

وسألني من أي بلد في جنوب شرق آسيا جئتُ؟

قلت له إنني من ولاية نيوجيرسي قدمتُ.

 

فألح بالسؤال عن أصل آبائي وأجدادي الأقربين 

وآباء أجدادي الأبعدين وأجدادهم الأولين!

 

وكأنه يجري تحقيقًا عن سلالة من الدهماء،

عن السبب الذي آل بفتاة سوداء،

 

مسلمة من نيوجيرسي،

أن تجلس بجانبه على طاولة تسترخي،

 

في هذا المطعم ذي المفارش المترفة،

وقوائم الطعام المغلّفة.

 

وددتُ أن أقول له: "العبودية أيها المأفون!" 

لكن لدي أقساط إيجار، وتأمين وديون،

ومزيد من الديون، 

وتسوس في الأسنان، وغرام بالسوشي.

 لذا تجاهلتُ الأحمق واحتفظت بالحقيقة لنفسي.

 

قال حدثيني:

"لماذا لا يتفق السنة والشيعة؟"

"أخبريني عن أحداث العراق المريعة؟" 

"أخبريني عن السعودية وسوريا وإيران؟"

"ولماذا يحب المسلم القنابل لأخيه الإنسان؟"

 

وددتُ لو صوبتُ إلى وجهه فوهة بندقية،

لأرى تناثر لحمه الكالح في بذلته المتأنقة النقية.

 

لكنني لا أكترث، بل أحتسي الشاي المثلج بدون سكر متجاهلة

وأجول بنظري هنا وهناك بين الزملاء الجالسين عند الطاولة

الجالسين قربي، لا أحد منهم عينه علي

ولا أحد فيهم ينظر إلي.

 

بل يفعلون الأشياء الأمريكية التي يجيدونها:

يشكرون الله.

ويحشون أفواههم بالطعام.

يتظاهرون أنهم لا يسمعونه.

يتظاهرون أنهم لا يرونني.

 

هذه التدوينة مستقاة من محاضرة  TEDxUCincinnati. ويمكنكم مشاهدتها هنا:

عن المؤلفة

 سكينة هوفلر كاتبة فائزة بجوائز وطالبة دكتوراه في جامعة سنسيناتي. عملت سابقًا مهندسة كيميائية في وزارة الدفاع الأمريكية، وهي داعية إلى استخدام الأدب والفن في الحياة اليومية.