دور تصميم الغرافيك في الحفاظ على الهوية العربية

22 يناير 2021

أنا امرأة مصرية، عربية، مسلمة٬ كل المترادفات لتكوين عنصر "خطر" في عالم ذكوري أصابه مرض الإسلاموفوبيا وطمس الهوية العربية. وجودي في هذا العالم، أصبح ضغطًا للدفاع عن نفسي دون أدنى سبب، فوجدت عملي هو وسيلتي للنجاة، لسرد قصتي، وقصة الآلاف من الأفراد الذين يتكلمون اللغة نفسها، و يشعرون بالمعاناة نفسها... يجب أن تكون مستعدا دائمًا للإجابة من أنت؟ ومن أين أتيت؟.

 ولدت في بلد غني بالقصص الثورية، قصص الانتصارات والانهيارات الحضارية وأيضًا التنوع الديني٬ العرقي٬ الثقافي واللغوي. نشأتي في محيط مثل ذلك جعلتني أؤمن بقوة سرد القصة. فالشخص يستطيع رواية القصة وسردها بأكثر من طريقة. وأنا اخترت تصميم الغرافيك. لأننا لو عدنا إلى الماضي سنجد أن أقدم طريقة لسرد القصص كانت عن طريق الرسم والذي تطور بعد ذلك لفنون عديدة ومنها تصميم الغرافيك.

أؤمن أن التصميم يمكنه تغيير العالم. فقد بدأت حياتي كرسامة... كنت أطمح دائمًا رسم صور، أشخاص، وجوه، عيون، عواطف٬ ولكن مع ذلك كان هذا ومن وجهة نظري مجرد فن دون وظيفة ملموسة. أردت إحداث المزيد من التأثير. كنت أرغب في لمس قلوب الناس أو تنوير فكرة أو إحداث تغيير. أدركت أنه لا يزال بإمكاني أن أكون فنانة وأن أُحسّن حياة الناس من خلال التصميم والتواصل المرئي. شغفي المبكر بالأشكال والألوان والأنماط جعل تصميم الغرافيك خياري الأمثل! اليد غير المرئية لمصمم الغرافيك قادرة على تحسين وتشكيل كلّ مجال من مجالات حياتنا.

فعلى الأقل في مدينتي القاهرة ساعد هذا الفن في إسقاط ديكتاتوريين مختلفين. فمصر مرت خلال الأعوام السابقة بثورتين، وكان لاستخدام اللافتات وصور الغرافيك دور كبير، وأظهرت الثورتين أن التواصل المرئي أصبح أكثر قوة وتأثيرًا من الكلمة.

ومن أهم سمات أي دولة أو حضارة هي لغتها. واللغة العربية أحد أقدم اللغات في العالم، لغة لها تاريخ كبير وحتى مع قلة عدد الدول المتحدثة باللغة العربية حاليًا مقارنًة بالقرون الماضية بسبب عقود من الاستعمار أو القمع السياسي والعولمة. مع ذلك٬ ومع كل التحديات التي واجهتها اللغة العربية بقيت شامخة عبر الزمن.

وحتى لو لم تكن من متحدثي اللغة العربية ستجد أن حروف اللغة العربية لها سحر خاص لا نعلم أسراره. ستشعر عند رؤيتك لأي كلمة عربية بقوتها حتى لو لم تفهم اللغة وحروفها ومرادفاتها.  لغة متعددة المترادفات والمشتقات والكنايات والتعبيرات البديعة، لغتنا الجميلة التي تحمل خصائص الأمة العربية وتصوراتها٬ عقيدتها٬ تراثها٬ أفكارها وحريتها. ولأن حروف اللغة العربية هي المكون لهذه الكلمات وسبب سحرها البديع فكان دخولها لعالم تصميم الغرافيك من أسهل ما يكون. وجدت أن هذا النوع من التصميم يستطيع أن يحيي اللغة العربية ومن ثم الحفاظ على الهوية العربية بأكملها.

أثناء دراستي للماجستير لاحظت اشتياقي للغة العربية. إشتقت للنظر للحروف واستيعاب معناها. لذا٬ في يوم من الأيام دخلت أحد أكبر المكتبات في إيطاليا باحثًة عن كتب عربية وفوجئت أن ما وجدته في فئة الكتب العربية الشرق أوسطية هي كتب بعناوين الخوف والدمار والإرهاب وداعش! وقتها أحسست بغصة في قلبي من كون هذه صورة العالم عنّا نحن "العرب" حتى ولو من المنظور الأدبي.

سألت نفسي ماذا حدث للكُتّاب المرموقين عالمًّيا مثل نجيب محفوظ وجبران خليل جبران؟ والشعراء المرموقين منهم المتنبي ونزار قباني؟ هل المنتجات الثقافية لمنطقة بأكملها من العالم والتي تتسم بالغنى والتنوع صنفت أو تم تجاهلها كليًّا ومُنعت من ترك أي تأثير حقيقي على الإنتاج الإعلامي العالمي والخطاب الاجتماعي المعاصر؟

أحسستُ بمسؤولية كبيرة تجاه لغتي العربية العريقة، كيف أستطيع المساهمة في إعادة عظمة وأهمية هذه اللغة وإبقائها حية كما كانت من قبل؟

هل هذا يمكن أن يحدث من خلال التعليم؟ الفن؟ السينما؟ التراث أم كل ما سبق؟ ولكن السؤال الأهم: هل يستطيع تصميم الغرافيك تغيير هذه الصورة النمطية؟ وكيف يكون لي دور كمصممة غرافيك في إحياء وتكريم اللغة العربية؟

ومن هذا الموقف كانت نواة مشروع "يلا نلعب! " أو Let's Play!

في هذه اللحظة فكرت في كيفية وضع حد لتصور العالم عن العرب أنهم إرهابيو هذا الكوكب. وكيف يمكن أن أقوم بشيء يحفظ ويكرم الأبجدية العربية٬ وأن نشاركها مع أناس آخرين وثقافات أخرى؟ كانت اللحظة الحاسمة بالنسبة لي هي العثور على حل ثنائي اللغة لتعليم اللغة العربية، لأن التواصل الفعال والتعليم هو الطريق إلى مجتمعات أكثر تسامحًا. بعد تفكير طويل وجدت أن أفضل فكرة هي الجمع بين البراءة والهوية العربية. الهوية العربية متمثلة في الحروف٬ أما البراءة تتمثل في الأطفال. وأحد أهم الألعاب التي يحبها الصغار وحتى الكبار وهي لعبة الليجو.

هدفي من هذا المشروع هو تقديم اللغة العربية للمتعلمين والأجانب، والأهم من ذلك مساعدة اللاجئين على الاندماج في المجتمعات المستضيفة لهم وذلك عبر ابتكار نظام تعلم ثنائي اللغة أو تواصل في كلا الاتجاهين٬ واخترت "يلا نلعب!" اسمًا لهذه الفكرة.

الفكرة ببساطة هي ابتكار طريقة مسلية٬ مختلفة ومشوقة لتعلم اللغة العربية الفصحى باستخدام لعبة الليجو، تصميم جميع حروف اللغة العربية بقطع الليجو ليكونوا بذلك كتاب، عبر تطبيق هاتفي وبطاقات تتضمن كلّ حروف الأبجدية العربية بكل أشكالها الأربعة. إضافة إلى قاموس مكون من ٤٠٠ كلمة عربية.

١١٦ حرف رُكّبت في أسبوع كامل !

في ورشتي في فلورنسا ركّبت الحروف ثم صوّرت كلّ حرف على حدة ثم أضفت بعض اللمسات لكلّ لون واخترت اللون المناسب للخلفية ونوعية الخط الذي سيُستعمل. الهدف القادم هو ترجمة هذا الكتاب لأكبر عدد ممكن من اللغات حتى يصبح تعليم وتعلّم اللغة العربية ممتعًا وسهلًا ومتاحًا عالميًّا.

كان العمل في هذا المشروع شكلاً من أشكال التأمل البصري، مثل الدعاء أو الممارسات الصوفية من أجل كوكب أفضل. استخدام الليجو في الجمع ما بين لغتين كان مجرد استعارة عن أننا جميعًا من نفس واحدة، وأنه ينقصنا بناء ما يجمعنا على اختلاف ثقافتنا ولغتنا وأفكارنا. من خلال هذا المشروع رأيت كيف يمكن إزالة الحواجز بين الناس. لذلك بغض النظر عن مدى نظرتنا السلبية إلى العالم من حولنا، أو عدد الكتب المحبطة عن داعش، والجماعة الإرهابية سأستمر في بناء عالم واحد مليء بالألوان.

مشروع "Branding Egypt Initiative"

بعد مشروع "يلا نلعب" كان المشروع القادم مختلف يحمل هدفًا جديدًا وهو إنشاء علامة تجارية لمحافظات مصر.  " Branding Egypt Initiative" الفكرة تقوم على إنشاء هوية بصرية كاملة لـ 29 محافظة في مصر. في عام 2018، قدمت خطة المشروع الكاملة لشباب مصر من خلال مؤتمر الشباب بحضور رئيس جمهورية مصر العربية الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي وافق فورًا على المبادرة وتم تبنيها وإطلاقها بعد النموذج الأولي الأول لها وهو "العلامة التجارية لمحافظة الأقصر".

يهدف المشروع إلى ربط التاريخ والحاضر والمستقبل. والترويج للسياحة في مدن مصر المختلفة. والبداية كانت بالمدينة التي تحتوي على ثلث آثار العالم- مدينة الأقصر.

 تصاميم مشروع" العلامة التجارية لمحافظة الأقصر " جمعت ما بين نظام الكتابة الهيروغليفية والنصوص الحديثة. بالإضافة إلى نظام ألوان ديناميكي وحيوي، نظام ساحر مستوحى من رسومات المصريين القدامى الأصلية الموجودة في بعض المعابد. وهذا بجانب مصادر إلهام استخرجتها من عناصر المدينة نفسها من العمارة، لطبيعتها، لتاريخها الذي لا مثيل له وكذلك أساطيرها والربط بين الضفتين الشرقية والغربية.

"مشروع إيكو ايجيبت"

دائما ما كنت أؤمن أن الفن قادر على إظهار جمال كل دولة وكل ثقافة، وأن في كل بلاد العالم هناك كنوز مدفونة تحتاج فقط إلى تسليط الضوء عليها. رأيت أنه من خلال التصميم أستطيع أن أظهر للعالم كلّه جمال بلدي مصر.

بعد تقريبًا سنتين من العمل تحقق حلمي أخيرًا من خلال مشروع " إيكو ايجيبت " وهي موسوعة إلكترونية منشورة تقوم بتوثيق وتثقيف الناس في مصر والعالم عن كنوز مصر الخفية من تراث القبائل للأماكن والمنتجات والأنماط البصرية في أكثر من 30 مكان ومحمية طبيعية في مصر مثل: وادى الجمال، أبو جالوم، نبق، رأس محمد، سانت كاترين، سيوة، الصحراء البيضاء، النوبة، الواحات البحرية، بحيرة قارون، وادي دجلة، وادى الريان وطابا و غيرهم.

"مشروع إعادة إنشاء علامة تجارية لدار الكتب والوثائق القومية"

ولأننا لا يمكن أن يكون لنا مستقبل بدون الحفاظ على ماضينا وتاريخنا، فكان للفن دائمًا دورًا فعالًا في المحافظة على التاريخ وإعادة إحيائه. مشروع "إعادة إنشاء علامة تجارية لدار الكتب والوثائق القومية" برعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)  ويعتبر من المشاريع المهمة التي قمت بالعمل عليها لأحد أهم القلاع الثقافية في مصر . 

دار الكتب تعتبر واحدة من أكبر المكتبات في العالم، فالدار تضم مجموعة نادرة من المخطوطات يبلغ عددها حوالي ستون ألف مخطوط، كُتبت بالعربية والتركية والفارسية على مدى قرون طويلة في مختلف المجالات مثل العلوم الدينية، والعلوم الطبيعية، والرياضيات، والشعر، وعلوم اللغة، والتاريخ، وعلوم الاجتماع. تضم أيضًا مجموعة من أوراق البردي، وخرائط، ولوحات وألبومات خطية، وأغلفة كتب منفصلة، وأوائل المطبوعات، ودوريات، وأكثر من 21 ألف مسكوكة من عملات وميداليات وغيرها.

 وقام هذا المشروع على إعادة إنشاء علامة تجارية من الألف إلى الياء لهذا المكان العريق. مشروع كامل بداية من عمل شعار جديد للدار إلى مخطوطات تضم كل المعلومات عن الدار. بالإضافة إلى خريطة كاملة للمكان مع تصميم دليل لمتحف المخطوطات أيضًا. وبجانب ذلك التصميمات المطبوعة الخاصة بالدار.

"مشروع سفن آب تحتفل بمصر"

كما للتصميم دور أساسي  في إظهار الهوية البصرية لأي منتج في العالم فهو قادر أيضًا على  إظهار والتعبير عن تراث وهوية أي دولة.

يشعر المصريون أن تصميم منتجات المياه الغازية هو تصميم غربي بالكامل٬ لذلك قمنا بأخذ المبادرة لتصميم أول مجموعة محلية من علب المياه الغازية تسمى بـ “سفن آب تحتفل بمصر". الفكرة تقوم على عمل تسلسل زمني لتطور الرسوم البصرية في مصر عبر تاريخها. من خلال عرض ٤ عصور في تاريخ مصر وكانت هذه فرصة للاحتفال بالتراث المصري وأيضًا لجعل المصريين فخورين بدولتهم وتراثها العريق وإعادة إحياء شعور المصريين بالوفاء والانتماء لبلدهم الحبيب مصر.

وتكملة لهذا المشروع أطلقنا مسابقة في جامعة حلوان بين الطلبة تنافسوا فيها بتصميم مجموعات مختلفة من العلب قائمة على نفس الفكرة وهي الاحتفاء والاحتفال بالهوية المصرية.

ولكن لم تتوقف الرحلة هنا، ما زلت أرغب في إحداث ثورة بصرية في مصر والشرق الأوسط ، أريد نشر تعليم تصميم الغرافيك وزيادة الوعي بأهميته في حياتنا اليومية. آمل أن أكون في يوم من الأيام مسؤولة عن نشر التصميم الغرافيك في مجالات شتى مثل: التعليم والصحة والسياسة وأي مجالات يمكن أن أساهم عن طريقها في تعزيز وإحياء تراث بلدي والمنطقة بأكملها. ولأن الفن قادر علـى  تعزيز الثقافات وإيجاد طرق جديدة للحفاظ على التاريخ مع مواكبة المستقبل. هدفي هو تقديم نظرة جديدة لكنوز تاريخنا العريق بطريقة عصرية تصل لأكبر عدد ممكن من الناس.

يمكنك مشاهدة محاضرة لانا مزاهرة هنا:

عن المؤلفة

غادة والي مصممة غرافيك مصرية من مجتمع TED، صممت  مختلف الخطوط و العلامات التجارية ومشاريع فنية القائمة على تصميم الغرافيك.